دراسة هارفارد الطويلة الأمد عن النمو البشري (5)

 

 

أ. د. حيدر أحمد اللواتي **

 

تُعد ظاهرة تنامي الطلاق من أكثر الظواهر الاجتماعية التي تثير القلق في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؛ فعدد من الإحصائيات والتي تمت في مختلف دولنا العربية والإسلامية تشير لتنامي ظاهرة الطلاق بصورة واضحة، وقد سلَّطت دراسة "هارفارد الطويلة الأمد عن النمو البشري" والدراسة الأخرى التي أشرنا لها سابقًا وهي دراسة "تيرمان لطول العمر"، على أثر الطلاق على الأبناء، وما يُميِّز هاتان الدراستان أنهما تسلطان الضوء على أثر الطلاق على المدى البعيد على حياة الأبناء؛ فالأثر المباشر والقصير المدى يمكن متابعته، لكن ما لا يمكن الكشف عنه عادة هو الأثر البعيد المدى، وذلك لتداخل العوامل ولصعوبة الربط بينها.

تبدأ الدراسة التي أُجريت في جامعة هارفارد بتبيين التأثير السلبي للطلاق الأبوي على النتائج التعليمية للأطفال، يظهر أن هذه الآثار تتفاقم عندما يكون الطلاق غير متوقع؛ إذ يصعب على الأطفال التكيف مع هذا التغير المفاجئ في بنيتهم الأُسرية، ومن المثير للاهتمام أن الدراسة تشير إلى أن الأطفال الذين ينشؤون في أسر تعاني من صراعات أو عدم استقرار مُسبق قد يتأثرون بشكل أقل، ربما لأنهم قد طوروا مسبقًا آليات للتعامل مع التوتر، غير أن الطلاق لا يقتصر أثره على الجانب التعليمي فقط؛ فهو يرتبط أيضًا بصعوبات مالية تقلل من الموارد المتاحة للأطفال، إضافة إلى تقليص الوقت الذي يقضيه الوالدان مع أبنائهم، ما يزيد من التوتر العائلي ويؤثر سلبًا على التكيف الاجتماعي والعاطفي للأطفال.

من جانب آخر، تقدم دراسة "تيرمان" منظورًا مختلفًا لكنه مكمل؛ حيث تربط بين الطلاق وارتفاع معدلات الوفاة المبكرة لدى الأطفال عبر مراحل حياتهم، فقد بيّنت أن الأطفال من عائلات مُطلَّقة يموتون في المتوسط قبل نظرائهم من العائلات المتماسكة بخمس سنوات تقريبًا، وتكشف الدراسة أن هذا الخطر لا يأتي من فراغ؛ بل يرتبط بعوامل وسيطة مثل ارتفاع احتمالات الطلاق لديهم في المستقبل، وانخفاض مستويات التعليم، وقلة المشاركة في الأنشطة المجتمعية لدى النساء خاصةً.

وقد أوضحت دراسة "تيرمان" أن تحقيق الرضا الشخصي في منتصف العمر يمكن أن يخفف من وطأة بعض العواقب، لا سيما لدى الرجال؛ مما يفتح الباب أمام أهمية الدعم النفسي والاجتماعي في مراحل الحياة المختلفة.

وفي المقابل، أوضحت دراسة هارفارد أن الزواج الناجح للرجال الذين عانوا في صغرهم من التفكك الأسري، له أثر على تغلبهم على التحديات التي واجهوها في صغرهم نتيجة تفكك الأسرة؛ فهو كالدواء الذي يشفي من تلك الأمراض النفسية التي عانوا منها.

الربط بين الدراستين يُبرز أن الطلاق ليس مجرد حدث قانوني أو اجتماعي؛ بل هو تجربة عميقة تؤثر على البناء النفسي والاجتماعي للأطفال، تمتد لتشمل صحتهم وسلوكهم وحتى طول أعمارهم. كما يشير إلى ضرورة النظر إلى الطلاق ضمن سياق أوسع يشمل الاستقرار الأسري، الدعم الاجتماعي، والظروف الاقتصادية، والتي تلعب دورًا حاسمًا في تحديد مدى تأثيره.

هذه الدراسات الاجتماعية توضِّح لنا بجلاء أهمية هذا النوع من البحوث والتي قد لا يكون لها مردود مادي مباشر؛ فهي لن تساعد بصورة مباشرة في زيادة الدخل أو حل مشاكل اقتصادية آنية، ولكنها تبحث عن جذور المشاكل والتحديات التي تواجه المجتمعات، ومن هنا فإن لها أهمية بالغة ولا يجب الاستهانة بها، وعلى الجهات المختصة بشؤون البحث العلمي تولية اهتمام خاص بهذا النوع من الأبحاث، ورصد ميزانيات توازي أهمية البحث.

واهتمامنا بالبحوث التطبيقية والتي لها علاقة مباشرة بدعم الاقتصاد لا يجب أن يكون على حساب أصناف أخرى من البحوث العلمية، والتي قد لا يكون لها أثر اقتصادي مباشر؛ لأن التطور عملية متكاملة ولا يمكن أن تتم من خلال التركيز على بعض الجوانب من البحث العلمي وإهمال الجوانب الأخرى.

كما إن هذه الدراسات تُوضِّح لنا أن الظواهر الاجتماعية لا يمكن الاعتماد فيها على التجارب والخبرات الشخصية فقط، ودون الاستعانة بالبحوث العلمية؛ اذ إنها قد توصل الى نتائج وتوصيات خاطئة، مما يزيد من حجم التحديات والمشاكل بدل من حلها؛ فالمُلاحَظ أن الكثيرين من المُصلحين الاجتماعيين ورجال الدين يتعرَّضون ويتصدُّون لظاهرة الطلاق في مجتمعاتنا الإسلامية، وذلك من خلال ملاحظات شخصية، ومتابعات غير مدروسة وغير خاضعة لضوابط البحث العلمي، ويتوصَّلون الى نتائج واستنتاجات غير مدروسة وربما غير صحيحة، ولذا فإننا نرى أهمية التوقف عن مثل هذه الممارسات، ولا بُد من الرجوع الى الأبحاث العلمية في دراسة مختلف الظواهر الاجتماعية سواء أكانت ظاهرة طلاق أو غيرها من الظواهر الاجتماعية.

في المقالات المقبلة، سنتناول قصص حياة بعض المشاركين ونسلط الضوء عليها، لنستلهم منها بعض ما توصلت له هذه الدراسة المُهمة.

وللحديث بقية..

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

الأكثر قراءة